فصل: المسألة الثالثة: (اختلاف العلماء في زكاة الحلي المباح):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تنبيه [في اعتبار الوزن في نصاب الفضة والذهب]:

يجب اعتبار الوزن في نصاب الفضة والذهب بالوزن الذي كان معروفًا عند أهل مكة، كما يجب اعتبار الكيل في خمسة الأوسق التي هي نصاب الحبوب والثمار بالكيل الذي كان معروفًا عند أهل المدينة.
قال النسائي في سننه في كتاب الزكاة: أخبرنا أحمد بن سليمان، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن حنظلة، عن طاؤس عن ابن عمر عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة».
وقال أبو داود في سننه في كتاب البيوع: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا ابن دكين عن حنظلة، عن طاوس، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة»، وقال النووي في (شرح المهذب): وأما حديث: «الميزان ميزان أهل مكة» إلى آخره فرواه أبو داود، والنسائي باسانيد صحيحة على شرط البخاري ومسلم من رواية ابن عمر، رضي الله عنهما.
وقال أبو داود: روي من رواية ابن عباس، رضي الله عنهما. اهـ.
قال الخطابي: معنى هذا الحديث أن الوزن الذي يتعلق به حق الزكاة وزن أهل مكة، وهي دار الإسلام، قال ابن حزم: وبحثت عنه غاية البحث من كل من وثقت بتمييزه: وكل اتفق لي على أن دينار الذهب بمكة وزنه اثنتان وثمانون حبة، وثلاثة أعشار حبة من حب الشعير المطلق، والدرهم سبعة أعشار المثقال، فوزن الدرهم سبع، وخمسون، وستة أعشار حبة، وعشر عشر حبة، فالرطل مائة، وواحد، وثمانية، وعشرون درهمًا بالدرهم المذكور. اهـ.
وفي القاموس في مادة م ك ك والمثقال درهم، وثلاثة أسباع، والدرهم ستة دوانق، والدانق قيراطان، والقيراط طوجان، والطوج حبتان، والحبة: سدس ثمن درهم، وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءًا من الدرهم. اهـ.
وقد قدمنا الكلام على قدر خمسة الأوسق في سورة الأنعام.

.المسألة الثانية: هل يضم الذهب والفضة إلى بعض في الزكاة أو لا؟

لم أر في ذلك نصًا صريحًا عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء مختلفون فيه، وقد توقف الإمام أحمد رحمه الله عن ضم أحدهما إلى الآخر في رواية الأثرم، وجماعة، وقطع في رواية حنبل بأنه لا زكاة عليه حتى يبلغ كل واحد منهما نصابًا.
وممن قال بأن الذهب والفضة لا يضم بعضهما إلى بعض: الشافعي، وأبو ثور، وأبو عبيد وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وشريك. قال ابن قدامة: في (المغني) واختاره أبو بكر عبد العزيز.
وممن قال: إن الذهب والفضة يضم بعضهما إلى بعض في تكميل النصاب: ومالك. والأوزاعي، والحسن وقتادة، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه.
قال مقيده- عفا الله عنه-: والذي يظهر لي رجحانه بالدليل من القولين أن الذهب والفضة لا يضم أحدهما إلى الأخر لما ثبت في بعض الروايات الصحيحة كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة» الحديث.
فلو كان عنده أربع أواق من الورق الذي هو: الفضة، وما يكمل النصاب من الذهب فإنه يصدق عليه بدلالة المطابقة أنه ليس عنده خمس أواق من الورق.
وقد صرح النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح أنه لا صدقة في أقل من خمس أواق من الورق. وظاهر نص الحديث على اسم الورق يدل على أنه: لا زكاة في أقل من خمس أواق من الفضة. ولو كان عنده ذهب كثير. ولا دليل من النصوص يصرف عن هذا الظاهر. والعلم عند الله تعالى.

.المسألة الثالثة: [اختلاف العلماء في زكاة الحلي المباح]:

اختلف العلماء في زكاة الحلي المباح. فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا زكاة فيه. وممن قال به مالك، والشافعي وأحمد في أصح قوليهما، وبه قال عبد الله بن عمر بن الخطاب، وجابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وعائشة، وأماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، والشعبي، ومحمد بن علي، والقاسم بن محمد، وابن سيرين، والزهري، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيد، وابن المنذر.
وممن قال بأن الحلي المباح تجب فيه الزكاة: أبو حنيفة رحمه الله، وروي عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وبه قال ابن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وميمون بن مهران، وجابر بن زيد، والحسن بن صالح، وسفيان الثورث، وداود، وحكاه ابن المنذر أيضًا عن ابن المسيب، وابن جبير، وعطاء ومجاهد، وابن سيرين، وعبد الله بن شداد، والزهري.
وسنذكر إن شاء الله تعالى حجج الفريقين، ومناقشة أدلتهما على الطرق المعروفة في الأصول، وعلم الحديث. ليتبين للناظر الراجح من الخلاف.
اعلم أن من قال بأن الحلي المباح لا زكاة فيه: تنحصر حجته في اربعة أمور:
الأول: حديث جاء بذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: آثار صحيحة عن بعض الصحابة يعتضد بها الحديث المذكور.
الثالث: القياس.
الرابع: وضع اللغة.
أما الحديث: فهو ما رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار من طريق عافية بن أيوب، عن الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا زكاة في الحلي».
قال البيهقي: وهذا الحديث لا أصل له، إنما روي، عن جابر من قوله غير مرفوع، والذي يروى عن عافية ابن أيوب، عن الليث، عن أبي الزبير، عن جابر مرفوعًا لا أصل له، وعافية بن أيوب مجهول: فمن احتج به مرفوعًا: كان مغرورًا بدينه، داخلًا فيما نعيب به المخالفين من الاحتجاج برواية الكذابين، والله يعصمنا من أمثال هذا.
قال مقيده:- عفا الله عنه- ما قاله الحافظ البيهقي، رحمه الله تعالى من أن الحكم برواية عافية المذكور لهذا الحديث مرفوعًا من جنس الاحتجاج برواية الكذابين فيه نظر.
لأن عافية المذكور لم يقل فيه أحد إنه كذاب، وغاية ما في الباب أن البيهقي ظن أنه مجهول، لأنه لم يطلع على كونه ثقة، وقد اطلع غيره على أنه ثقة فوثقه، فقد نقل ابن أبي حاتم توثيقه، عن أبي زرعة. قال ابن حجر في (التخليص): عافية بن أيوب قيل ضعيف، وقال ابن الجوزي: ما نعلم فيه جرحًا، وقال البيهقي، مجهول، ونقل ابن أبي حاتم توثيقه عن أبي زرعة.
ولا يخفى أن من قال إنه مجهول يقدم عليه من قال إنه ثقة: لأنه اطلع على ما لم يطلع عليه مدعي أنه مجهول، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والتجريح لا يقبل مع الإجمال. فعافية هذا وثقة أبو زرعة، والتعديل والتجريح يكفي فيهما واحد على الصحيح في الرواية دون الشهادة. قال العراقي في ألفيته:
وصححوا اكتفاءهم بالواحد ** جرحا، وتعديلا خلاف الشاهد

والتعديل يقبل مجملًا بخلاف الجرح للاختلاف في أسبابه.
قال العراقي في ألفيته:
وصححوا قبول تعديل بلا ** ذكر لأسباب له أن تنقلا

ولم يروا قبول جرح أبهما ** للخلف في أسبابه وربما

استفسر الجرح فلم يقدح كما ** فسره شعبة بالركض فما

هذا الذي عليه حفاظ الأثر ** كشيخي الصحيح مع أهل النظر

. إلخ.
وهذا هو الصحيح: فلا شك أن قول البيهقي في عافية: إنه مجهول أولى منه بالتقديم قول أبي زرعة. إنه ثقة. لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وإذا ثبت الاستدلال بالحديث المذكور، فهو نص في محل النزاع.
ويؤيد ما ذكر من توثيق عافية المذكور أن ابن الجوزي مع سعة اطلاعه، وشدة بحثه عن الرجال. قال: إنه لا يعلم فيه جرحًا.
وأما الآثار الدالة على ذلك: فمنها ما رواه الإمام مالك في (الموطأ) عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه أن عائشة زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي، فلا تخرج من حليهن الزكاة، وهذا الإسناد عن عائشة في غاية الصحة، كما ترى.
ومنها ما رواه مالك في (الموطأ) أيضًا، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه كان يحلي بناته وجواريه الذَّهب، ثم لا يخرج من حليهن الزكاة. وهذا الإسناد عن ابن عمر رضي الله عنهما في غاية الصحة كما ترى.
وما قاله بعض أهل العلم من أن المانع من الزكاة في الأول أنه مال يتيمة، وأنه لا تجب الزكاة على الصبي، كما لا تجب عليه الصلاة. مردود بأن عائشة ترى وجوب الزكاة في أموال اليتامى، فالمانع من إخراجها الزكاة. كونه حليًا مباحًا على التحقيق. لا كونه مال يتيمة، وكذلك دعوى أن المانع لابن عمر من زكاة الحلي أنه لجوار مملوكات.
وأن المملوك لا زكاة عليه مردود أيضًا بأنه كان لا يزكي حلي بناته مع أنه كان يزوج البنت له على ألف دينار يحليها منها بأربعمائة، ولا يزكي ذلك الحلي، وتركه لزكاته لكونه حليًا مباحًا على التحقيق.
ومن الآثار الواردة في ذلك ما رواه الشافعي، أنا سفيان، عن عمرو بن دينار سمعت رجلًا يسأل جابر بن عبد الله عن الحلي فقال زكاته عاريته ذكره البيهقي في (السنن الكبرى)، وابن حجر في (التخليص) وزاد البيهقي فقال: وإن كان يبلغ ألف دينار فقال جابر كثير.
ومنها ما رواه البيهقي عن علي بن سليم قال: سألت أنس بن مالك عن الحلي، فقال: ليس فيه زكاة.
ومنها ما رواه البيهقي، عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تحلى بناتها الذهب ولا تزكيه نحوًا من خمسين ألفًا.
وأما القياس فمن وجهين:
الأول: أن الحلي لما كان لمجرد الاستعمال لا للتجارة والتنمية. الحق بغيره من الأحجار النفيسة كاللؤلؤ والمرجان، بجامع أن كلا معد للاستعمال لا للتنمية.
وقد أشار إلى هذا الإلحاق مالك- رحمه الله- في (الموطأ) بقوله: فأما التبر والحليّ المكسور الذي يريد أهله إصلاحه ولبسه، فإنما هو بمنزلة المتاع الذي يكون عند أهله، فليس على أهله فيه زكاة، قال مالك: ليس في اللؤلؤ. ولا في المسك والعنبر زكاة.
الثاني من وجهي القياس: هو النوع المعروف بقياس العكس، وأشار له في (مراقي السعود) بقوله في كتاب الاستدلال.
منه قياس المنطقي والعكس ** ومنه فقد الشرط دون لبس

وخالف بعض العلماء في قبول هذا النوع من القياس، وضابطه: هو إثبات عكس حكم شيء لشيء آخر لتعاكسهما في العلة، ومثاله. حديث مسلم: «أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟! قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر». والحديث، فإن النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: أثبت في الجماع المباح أجرًا، وهو حكم عكس حكم الجماع الحرام، لأن في الوزر. لتعاكسهما في العلة. لأن علة الأجر في الأول إعفاف امرأته ونفسه. وعلة الوزر في الثاني كونه زنى.